الفيلسوف والكاتب الفرنسي برنار-هنري ليفي في أقسى تقرير ميداني ينفي الرواية التي يحاول البعض تبسيطها
الفيلسوف والكاتب الفرنسي برنار-هنري ليفي في أقسى تقرير ميداني ينفي الرواية التي يحاول البعض تبسيطها، مؤكدًا أن ما يجري ليس حربًا بين جنرالين ولا نزاعًا قبليًا أو عرقيًا، بل مواجهة بين مشروع دولة ومؤسسات، في مقابل مشروع مليشيا إرهابية تسعى لتحويل السودان إلى خراب شامل:
في واحد من أكثر التقارير الميدانية قسوة عن الحرب في السودان، كتب برنار-هنري ليفي في مجلة Paris Match عن بلد يواجه حرب إبادة، حيث تختلط رائحة الدم بتراب المدن وتتحول أجساد النساء إلى ساحات معارك. منذ البداية يحسم ليفي الرواية التي يحاول البعض تبسيطها، مؤكدًا أن ما يجري ليس حربًا بين جنرالين ولا نزاعًا قبليًا أو عرقيًا، بل مواجهة بين مشروع دولة ومؤسسات، في مقابل مشروع مليشيا إرهابية تسعى لتحويل السودان إلى خراب شامل.
في لقائه برئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان في بورتسودان، يصوّر ليفي قائدًا يواجه عزلة السودان وصعوبة خوض معركة “شبه وحيد” ضد عدو يرتكب كل جريمة حرب ممكنة بحق المدنيين. يتطرق البرهان إلى لغز الإمارات العربية المتحدة التي كانت يومًا صديقة وغالبًا في الجانب الصحيح من التاريخ، لكنها اليوم تمد المليشيا بمعظم أسلحتها عبر تشاد. وينفي بشكل قاطع أي صلة بإيران، مشددًا على أن كل ما حدث لا يتجاوز فتح سفارة بلا خبراء ولا أسلحة كما تروج دعايات المهاجمين. وخلال لحظة إنسانية لافتة، يتعرف عليه شباب بورتسودان لتتحول الساحة إلى موجة هتافات وصرخات “عاش السودان”، فيما يرفع البرهان قبضته معلنًا أن رئيس الوزراء كمال إدريس بصدد تشكيل حكومة مدنية كاملة.
يرصد المقال الخراب الشامل في الخرطوم، حيث تحولت المدينة إلى مشهد يجمع بين صور سراييفو والموصل وباميان. يصف المتحف الوطني الذي دُمرت فيه مومياوات وتماثيل ممالك كوش وكرمة ومروي، والمكتبة الوطنية التي أحرقت أرشيفاتها، ومسجد الشهيد الكبير الذي طالته يد مليشيا الدعم السريع (الجنجويد). في أم درمان، يكشف ليفي عن مقبرة جماعية تضم 244 جثة لمدنيين اعتقلوا لأن الجوع دفعهم للخروج بحثًا عن الطعام قبل أن تمطرهم سيارات البيك أب بالرصاص وتتركهم ليتعفنوا تحت شمس الخرطوم.
الجزء الأكثر إيلامًا في التقرير يوثق استخدام الاغتصاب كسلاح ممنهج. تنقل الطبيبة نانا طاهر شهادات لنساء تعرضن لانتهاكات مروعة، من أمهات اغتُصبن أمام بناتهن وبنات أمام أمهاتهن، إلى اغتصاب جماعي متسلسل، ونساء صُعقن حتى فقدن عقولهن، وضحايا مُلئت أفواههن بالرمل لإسكات صراخهن. كما يسلط النص الضوء على أطفال الاغتصاب والنساء اللواتي يعشن بين قرار الإجهاض سرًا أو حمل قدر يحاولن إخفاءه. وتظهر شهادة صادمة لفتى في السابعة عشرة من عمره تم تخديره وحبسه مع أربع وعشرين امرأة ثلاثة أيام متواصلة تحت تأثير محفزات جنسية فكان يغتصبهن حتى فقد عقله.
كما يقدم المقال مشهدًا نادرًا للقوة المشتركة التي تضم قدامى مقاتلي الزغاوة والمساليت والفور، ممن خبروا فرسان الجنجويد في دارفور قبل عقدين، وهم اليوم يقاتلون مع القوات المسلحة السودانية ضد الورثة الجدد لآلة القتل والحرق نفسها. يجلسون عند الغروب في وادٍ جاف يتبادلون قصص الماضي، في صورة تلخص وحدة السودان أمام عدو لا يعرف سوى سياسة الأرض المحروقة.
يختتم ليفي مقاله بالتأكيد على أن السودان، بأرضه المضرجة بالدماء وتاريخه العريق، يستحق أكثر من صمت العالم. ويرى أن تجاهل الاستماع إلى هذه المأساة وصمة عار، بينما يصبح فتح العيون على حقيقة ما يجري واجبًا أخلاقيًا وإنسانيًا.