كيف خاضت المليشيا حربها إسفيرياً؟
كي بورد
الطيب علي فرح
آراء حرة
(1)
لم يكن الاستعداد والانتشار على الأرض، لوجستياً وعسكرياً للسيطرة على المرافق والمنشآت والمقار العسكرية واغتيال قادة القوات المسلحة السودانية عند ساعة الصفر في (ليلة الغدر) منتصف أبريل من العام 2023 هي وحدها ما وضعته مليشيا الدعم السريع المتمردة في أجندة أعمالها للسيطرة على البلاد..! بل كان الميدان الأخطر الذي وجد إهمالاً كبيراً من قبل الحكومة السودانية هو الميدان الإسفيري.. فعندما حانت ساعة الصفر، انتشرت آلة المليشيا وأذرعها الإعلامية في الداخل والخارج لتسيطر على هذا الملعب تماماً.. وما زالت تفرض هذه السيطرة حتى الآن طولاً وعرضاً..!
(2)
في الوقت الذي حشدت فيه المليشيا ما يفوق المائة ألف من عسكرها للسيطرة على البلاد كانت مكاتبها الخلفية تعلم أنه وببداية العام 2023 بلغ عدد مستخدمي الإنترنت في السودان لقرابة الـ13.5 مليون مستخدم، غالبيتهم من الشباب من الجنسين، بينما وصل عدد مستخدمي الهاتف السيار في بدايات نفس العام لـ32.59 مليون مستخدم، وهذه بلا شك معطيات ممتازة جداً لتنفيذ مهام استخباراتية، وحملات تضليل وهندسة للرأي العام.. بل وحملات تجنيد تستهدف الفئات الضعيفة بالسرديات المقنعة والوعود الزائفة التي تحكي عن نبل الهدف الذي يحركها لهذه الحرب.
(3)
لم تقتصر أهداف حرب المليشيا الإعلامية على امتلاك زمام الأمر والمبادرة في منصات التواصل المعروفة فيسبوك، تويتر، انستجرام، وتيكتوك.. بل عمدت في الأثناء للانتشار عبر تطبيقات المحادثات الشخصية، تحديداً تطبيق واتساب المعروف، حيث بدأت على الفور في إنشاء مجموعات خاصة بكل أحياء ولاية الخرطوم تحت وسم “احتياجات الحي الفلاني” ولو تفحصت هاتفك الآن لوجدت نفسك عضواً في إحدى هذه المجموعات التي كانت تستخدم لقياس الرأي العام والكشف عن تحركات الجيش، وبث الشائعات وتضخيم الأحداث وهو ما يقع ضمن العمليات النفسية Psychological Operations (PsyOps) بغرض إضعاف الروح المعنوية للمواطنين وجنود الجيش.. وذلك بنشر رسائل تزرع الخوف والشك وعدم اليقين، يتم دسها بذكاء وسط رسائل الحوجة الاجتماعية على شاكلة المخبز الشغال وين؟.. والكهرباء بتجي متين؟.. أذكر أنني قد كتبت منشوراً للتحذير من خطورة الانضمام لهذه المجموعات المفخخة..!!
(4)
في الأثناء، نشطت غرف إعلام المليشيا عبر منصات التواصل الاجتماعي الأخرى في تصميم حملات نشر المعلومات الكاذبة لإحداث الارتباك وفقدان الثقة والانقسام الداخلي، فتم إغراقها بالأخبار الزائفة، والصور المفبركة، والروايات المضللة التي تضعف الثقة في المؤسسات الحكومية والجيش السوداني، إضافةً لحملات نشر الدعاية السالبة لتغيير الرأي العام وكسب الدعم لقضية (جلب الديمقراطية)..!!
(5)
عملت غرف إعلام المليشيا المتمردة منذ بداية هذه الحرب على تسليط الضوء على نجاحاتها، والمبالغة في الحديث عن إخفاقات الجيش السوداني، وتقديم وجهة نظر متحيزة لها كما تمكنت من تحييد وسرقة خوارزميات فيسبوك الخاصة بالمستخدم السوداني بطريقة سهلة للغاية وبناءً على دراسة دقيقة لكيفية تعاطينا (الساذج) مع هذه المنصات.. على سبيل المثال فإن زيارة واحدة لصفحات (عجال لاقن) بغرض الضحك على الأخطاء الإملائية ومنشورات النعي الكاذبة التي اشتهرت بها هذه الصفحات كانت كافية لتحريك تكنولوجيا منصة فيسبوك لتجعلك متابعاً للصفحات والمنشورات الشبيهة والتي تعج بأخبار المليشيا وفبركاتها، ففيسبوك يعمل على مساعدتك فيقدم لك ما تحب متابعته بناءً على تجاربك السابقة، هذه هي المعادلة ببساطة..!!
(6)
قد يقفز سؤالاً الآن لذهنك، أن كيف لهؤلاء القادمين من الصحراء بجهلهم وبداوتهم وفظاظتهم وغلهم، تنظيم مثل هذا المخطط الإعلاميّ الكبير..؟؟ وهنا أقول لك إنّ المليشيا المتمردة بالإضافة لتلقيها لدعم وسلاسل إمداد ضخمة جداً من السلاح والتشوين والمال وغيره من أطراف خارجية، تلقت أيضاً دعماً مقدراً لتنفيذ هذه الحملات الإعلامية الضخمة، على سبيل المثال يمكن للأطراف الخارجية الداعمة للتمرد تزويد غرف المليشيات بالتكنولوجيا والأدوات الرقمية التي تمكنهم من تنفيذ حملات تضليلية ودعائية بفعالية أكبر، يشمل ذلك برامج التحليل البياني، والتطبيقات المشفرة، وأدوات التلاعب بالصور والفيديو، وقبل ذلك تدريب الكوادر على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي واستراتيجيات الحرب النفسية والتضليل الإعلامي وكيفية إنشاء ونشر المحتوى المؤثر، إضافةً لتوفير التمويل اللازم لتنفيذ الحملات الإعلامية والدعائية على نطاق واسع أو لتمويل إنشاء محتوى عالي الجودة يجذب الانتباه.. مستهدفين بذلك المستخدم الخارجي والرأي العام الدولي، والأخطر من ذلك إمكانية تزويد المليشيات بمعلومات استخباراتية عن الأهداف المحتملة وكيفية استغلالها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المحادثات الشخصية، حيث يمكن ببساطة توفير معلومات عن نقاط الضعف في البنية التحتية المعلوماتية للجيش، وتقديم الدعم اللوجستي لتسهيل التواصل والتنسيق بين غرف المليشيات عبر الشبكات الرقمية، وتوفير الوصول إلى الشبكات الافتراضية الخاصة (VPN).
ليس ذلك فحسب، فيمكننا التأكيد على أن الأطراف الخارجية الداعمة للمليشيا وعمليات قتلها وسحلها للشعب السوداني قد سخرت علاقاتها الدبلوماسية والتجارية مع الشركات التكنولوجية الكبرى للتأثير على سياسات منصات التواصل الاجتماعي بطرق تتيح للدعم السريع المتمرد التحرك بحرية أكبر أو التغاضي عن نشاطاته المخالفة لكل القوانين والأعراف..!
(7)
بدأت مليشيا الدعم السريع المتمردة الترتيب لكل هذا مبكراً جداً، في وقتٍ كانت أجهزة الدولة الإعلامية ومؤسساتها تغط في نوم عميق وهي تظن جاهلةً أن وسائل التواصل الاجتماعي إنما خلقت للعب واللهو ومتابعة أخبار شجار المغنيات، واستعراض الجلاليب، والدعوة للمواكب وغيرها من أمور يمكن السيطرة عليها.. بينما التاريخ القريب يحدثنا عن الكثير من التجارب التي كان يمكن دراستها والاستفادة منها، على سبيل المثال وكالة أبحاث الإنترنت الروسية (IRA) تمكّنت من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية للعام 2016 من خلال نشر المعلومات المضللة، وإنشاء حسابات وهمية، وتعزيز الانقسام بين الأمريكيين.
دعك من روسيا الدولة المتقدمة المتطورة، حتى داعش استخدمت بفعالية منصات مثل تويتر وفيسبوك وتليجرام لتجنيد المقاتلين و(مجاهِدات النكاح)، حيث شاهدنا بأم أعيننا طلاب الجامعات وهم يتركون دراستهم وذويهم ثم السفر للانضمام لهذا التنظيم، وكان معهد (بروكينغز) قد أجرى دراسات عديدة حول الاستخدام المتقدم لداعش لوسائل التواصل الاجتماعي لهذه الأغراض، ونذكر أيضاً استخدام إيران لوسائل التواصل الاجتماعي لنشر المعلومات، وتنفيذ الهجمات السيبرانية، والتأثير على الرأي العام داخليًا ودوليًا.
(8)
أظهر تقرير (ديجيتال ريبورت) المنشور في العام 2022 ارتفاع نسبة الأمية التقنية في السودان لتبلغ 61%.. وبالنظر للفئة العمرية المستخدمة للهواتف الذكية التي تضمنها التقرير يمكننا استنتاج أن أعداداً كبيرة من صناع القرار السياسي والعسكري تعاني من الأمية التقنية، حيث يصعب عليهم حُسن استخدام الهاتف الذكي أو المشاركة في اجتماع (أون لاين)، لذلك وجب فوراً “استنفار” وتوظيف الشباب المتعلم، المستنير المتابع، لمحاربة هذه الحملات المتواصلة التي ساهمت بقدر كبير في استمرار الحرب في السودان وانتشار رقعتها.
(9)
يحتاج السودان بشكل عاجل لخطط إسعافية واستراتيجيات فعالة لمواجهة هذه الحرب الإسفيرية الضروس، وذلك بإنشاء وحدات متخصصة لرصد النشاطات المضللة وتحليل البيانات لاكتشاف حملات التضليل في مراحلها المبكرة.. كما نحتاج وبسرعة لتنفيذ حملات توعية وتثقيف للجمهور حول كيفية التعرف على الأخبار الزائفة.
قبل ذلك، يحتاج السودان على مستوى الدولة وبصورة عاجلة لتعزيز التعاون مع الدول الحليفة والمنظمات الدولية لمواجهة هذه التهديدات، وذلك بتبادل المعلومات الاستخباراتية والتعاون والرد على الهجمات الإعلامية المضللة، والتوقيع على اتفاقيات لتدريب وتأهيل كوادر من الشباب السوداني على استراتيجيات الأمن السيبراني واستخدام وتوظيف الذكاء الاصطناعي لاكتشاف الأنماط غير الطبيعية على وسائل التواصل الاجتماعي التي قد تشير إلى حملات تضليلية أو هجمات سيبرانية. وهذا أمرٌ غاية في الأهمية.. فصفقات شراء السلاح وتعزيز الموقف العسكري لن تكفي أبداً وحدها لإنهاء هذه الحرب الوجودية على السودان وشعبه.
(10)
حرب المعلومات وحملات التضليل الإعلامية تحتاج أن يفكر أُولو الأمر مستقبلاً في إعادة النظر في المناهج الدراسية للتركز على التثقيف الإعلامي والتفكير النقدي منذ سن مبكرة.. فلا يعقل أن تنساق الغالبية العظمى من مستخدمي منصات التواصل خلف فيديوهات (غبيرة)، ومشاكل قروب (مهيرة)، والضحك في الأخطاء الإملائية في صفحات (عجال لاقن).. بينما هذا (العجال) يضحك من خلف الكيبورد على أمة ضحكت من جهلها الأمم..!